فصل: العمل بالقياس فطرة فطر الله عليها الناس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الصحابة يقيسون في فرص الجد مع الإخوة:

وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري عن عيسى بن أبي عيسى الخياط عن الشعبي قال: كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا وقال: إنه كان من رأي أبي بكر أن الجد أولى من الأخ وذكر الحديث وفيه فسأل عنها زيد بن ثابت فضرب له مثلا بشجرة خرجت ولها أغصان قال: فذكر شيئا لا أحفظه فجعل له الثلث قال الثوري: وبلغني أنه قال يا أمير المؤمنين شجرة نبتت فانشعب منها غصن فانشعب من الغصن غصنان فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني وقد خرج الغصنان من الغصن الأول قال: ثم سأل عليا فضرب له مثلا واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة فأعطاه السدس وبلغني أن عليا كرم الله وجهه حين سأله عمر جعله سيلا قال: فانشعب منه شعبة ثم انشعبت شعبتان فقال: أرأيت لو أن هذه الشعبة الوسطى تيبس أما كانت ترجع إلى الشعبتين جميعا قال الشعب: فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة هو ثالثهم فإن زادوا على أعطاه الثلث وكان على يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم ويعطيه السدس فإن زادوا على ستة أعطاه السدس وصار ما بقي بينهم وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة قال زيد: وكان رأيي يومئذ أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد وعمر بن الخطاب يرى يومئذ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة فضربت له في ذلك مثلا فقلت لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغذوهما ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل قال زيد فأنا أعذله وأضرب له هذه الأمثال وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الإخوة ويقول والله لو أني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله ولكن لعلى لا أخيب منهم أحدا ولعلهم أن يكونوا كلهم ذوى حق وضرب على وابن عباس لعمر يومئذ مثلا معناه لو أن سيلا سال فخلج منه خليج ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان.
ورأى الصديق أولى من هذا الرأي وأصح في القياس لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها.
والجواب عن هذه الأمثلة: أن المقصود أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون القياس في الأحكام ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من هذه الأسانيد وأثر من هذه الآثار فهذه في تعددها واختلاف وجوهها وطرقها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا يشك فيه وإن لم يثبت كل فرد فرد من الأخبار به.
وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو قال: أخبرني حي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يقول وذكر قصة الذي قتلته امرأة أبيه وخليلها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أن اقتلهما فلو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم قال ابن جريج: فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا: إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت قاطعهم قال: نعم قال: وذلك حين استخرج له الرأي.

.قياس ابن عباس في مناقشته مع الخوارج:

وقال عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عمن حدثه عن ابن عباس قال: أرسلني علي إلى الحرورية لأكلمهم فلما قالوا: لا حكم إلا لله قلت أجل صدقتم لا حكم إلا لله وإن الله حكم في رجل وامرأته وحكم في قتل الصيد فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل أم الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماءها ويلم شعثها.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا عكرمة بن عمار ثنا سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: قال علي: لا تقاتلوهم حتى يخرجوا فإنهم سيخرجون قال: قلت يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فإني أريد أن أدخل عليهم فأسمع من كلامهم وأكلمهم فقال علي: أخشى عليك منهم قال: وكنت رجلا حسن الخلق لا أوذي أحدا قال فلبست أحسن ما يكون من اليمنية وترجلت ثم دخلت عليهم وهم قائلون فقالوا لي: ما هذا اللباس فتلوت عليهم القرآن قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن ما يكون من اليمنية فقالوا: لا بأس فما جاء بك فقلت أتيتكم من عند صاحبي وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالوحي منكم وعليهم نزل القرآن أبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم فما الذي نقمتم فقال: بعضهم إن قريشا قوم خصمون قال الله عز وجل: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فقال بعضهم: كلموه فانتحى لي رجلان رجلان أو ثلاثة فقالوا: إن شئت تكلمت وإن شئت تكلمنا فقلت: بل تكلموا فقالوا: ثلاث نقمناهن عليه جعل الحكم إلى الرجال وقال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فقلت: قد جعل الله الحكم من أمره إلى الرجال في ربع درهم في الأرنب وفي المرأة وزوجها فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أفخرجت من هذه قالوا: نعم قالوا: وأخرى محا نفسه أن يكون أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فأمير الكافرين هو فقلت: لهم أرأيتم إن قرأت من كتاب الله عليكم وجئتكم به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أترجعون قالوا: نعم قلت: قد سمعتم أو أراه قد بلغكم أنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «امح يا علي» أفخرجت من هذه قالوا: نعم قال: وأما قولكم قتل ولم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها فإن قلتم نعم فقد كفرتم بكتاب الله وخرجتم من الإسلام فأنتم بين ضلالتين وكلما جئتهم بشيء من ذلك أقول: أفخرجت منها فيقولون نعم قال: فرجع منهم ألفان وبقي ستة آلاف وله طرق عن ابن عباس وقياسه المذكور من أحسن القياس وأوضحه.
وقد أنكر ابن عباس على زيد بن ثابت مخالفته للقياس في مسألة الجد والإخوة فقال ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا وهذا محض القياس.
ولما خص الصديق أم الأم بالميراث دون أم الأب قال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فشرك بينهما.
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن يحي بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: جاءت جدتان إلى أبي بكر فأعطى الميراث أم الأم دون أم الأب فقال: له رجل من الأنصار من بني حارثة يقال له عبد الرحمن بن سهل يا خليفة رسول الله قد أعطيت الميراث التي لو ماتت لم يرثها فجعل الميراث بينهما.
ولما شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة بن شعبة بالحد ولم يكملوا النصاب حدهم عمر قياسا على القاذف ولم يكونوا قذفه بل شهودا وقال عثمان لعمر: إن نتبع رأيك فرأيك أسد وإن نتبع رأي من قبلك فلنعلم ذو الرأي كان وقال علي: اجتمع رأيي ورأي عمر في بيع أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن فقال له قاضيه عبيدة السلماني يا أمير المؤمنين رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.
ولما أرسل عمر إلى المرأة فأسقطت جنينها استشار الصحابة فقال له عبد الرحمن بن عوف وعثمان: إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك وقال له علي: أما المأثم فأرجو أن يكون محطوطا عنك وأرى عليك الدية فقاسه عثمان وعبد الرحمن على مؤدب امرأته وغلامه وولده وقاسه علي على قاتل الخطأ فاتبع عمر قياس علي.
ولما احتضر الصديق رضي الله عنه أوصى بالخلافة إلى عمر رضي الله عنه وقاس ولايته لمن بعده إذ هو صاحب الحل والعقد على ولاية المسلمين له إذا كانوا هم أهل الحل والعقد وهذا من أحسن القياس.

.رآى الصحابة في المرآة المخيرة:

وقال على كرم الله وجهه: سألني أمير المؤمنين عمر عن الخيار فقلت: إن اختارت زوجها فهي واحدة وهو أحق بها وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة فقال: ليس كذلك إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها وإن اختارت زوجها فلا شيء فاتبعته على ذلك فلم خلص الأمر إلى وعلمت أنى أسأل عن الفروج عدت إلى ما كنت أرى فقال له زاذان: لأمر جامعت عليه أمير المؤمنين وتركت رأيك له أحب إلينا من أمر انفردت به فضحك وقال: أما إنه قد أرسل إلى زيد بن ثابت وخالفني وإياه وقال: إن اختارت زوجها فهى واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي ثلاث وهذا رأى منهم كلهم رضي الله عنهم ورأى عمر رضي الله عنه أقوى وأصح.
وقال عمر لعلى: إني قد رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فقال على رضي الله عنه: إن نتبع رأيك فرأيك رشيد وإن نتبع رأى من قبلك فنعم ذو الرأي كان وهل مع زيد بن ثابت في مسائل الجد والأخوة والمعادة والأكدرية نص من القرآن أوسنة أو إجماع إلا مجرد الرأي.
ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لامرأته: أنت على حرام فقال شيخا الإسلام وبصرا الدين وسمعه أبو بكر وعمر: هو يمين وتبعهما حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس وقال سيف الله على كرم الله وجهه وزيد: هو طلاق ثلاث وقال ابن مسعود: طلقة واحدة وهذا من الاجتهاد والرأي الصحابة أول من قاسوا واجتهدوا:
فالصحابة رضي الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله وهل يستريب عاقل في أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه ويمنعه من كمال الفهم ويحول بينه وبين استيفاء النظر ويعمى عليه طريق العلم والقصد فمن قصر النهى على الغضب وحده دون الهم المزعج والخوف المقلق والجوع والظمأ الشديد وشغل القلب المانع من الفهم فقد قل فقهه وفهمه والتعويل في الحكم على قصد المتكلم والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ومن عموم المعنى الذي قصده تارة وقد يكون فهمه من المعنى أقوى وقد يكون من اللفظ أقوى وقد يتقاربان كما إذا قال الدليل لغيره لا تسلك هذا الطريق فإن فيها من يقطع الطريق أو هي معطشة مخوفة علم هو وكل سامع أن قصده أعم من لفظه وأنه أراد نهيه عن كل طريق هذا شأنها فلو خالفه وسلك طريقا أخرى عطب بها حسن لومه ونسب إلى مخالفته ومعصيته ولو قال الطبيب للعليل وعنده لحم ضأن لا تأكل الضأن فإنه يزيد في مادة المرض لفهم كل عاقل منه أن لحم الإبل والبقر كذلك ولو أكل منهما لعد مخالفا والتحاكم في ذلك إلى فطر الناس وعقولهم ولو من عليه غيره بإحسانه فقال والله لا أكلت له لقمة ولا شربت له ماء يريد خلاصه من منته عليه ثم قبل منه الدراهم والذهب والثياب والشاة ونحوها لعده العقلاء واقعا فيما هو أعظم مما حلف عليه ومرتكبا لذروة سنامه ولو لامه عاقل على كلامه لمن لا يليق به محادثته من امرأة أوصي فقال والله لا كلمته ثم رآه خاليا به يواكله ويشاربه ويعاشره ولا يكلمه لعدوه مرتكبا لأشد مما حلف عليه وأعظمه.

.العمل بالقياس فطرة فطر الله عليها الناس:

وهذا مما فطر الله عليه عباده ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} جميع وجوه الانتفاع من اللبس والركوب والمسكن وغيرها.
وفهمت من قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} إرادة النهي عن جميع أنواع الأذى بالقول والفعل وإن لم ترد نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى فلو بصق رجل في وجه والديه وضربهما بالنعل وقال إني لم أقل لهما أف لعده الناس في غاية السخافة والحماقة والجهل من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده والألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا ويحب هذا ويبغض هذا وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه لما لا يوجد في كلامه صريحا وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة.